سطوة الأيديولوجيا في الأزمة اليمنية

إذا تم تحييد العوامل والتداخلات الخارجية والإقليمية في مشهد الصراع اليمني لن تتبقى في نهاية المطاف إلا القوى ذات الخلفيات والتوجهات العقائدية التي تستمد قوتها وديمومتها من سطوة الأيديولوجيا وقدرتها على التأثير على شرائح واسعة من اليمنيين الذين لم يجدوا على الأرجح طريقا ثالثا ليسلكوه بين دروب المتصارعين من مختلف التوجهات.

ومع تراجع المكونات غير الدينية في الساحة اليمنية تبرز اليوم بشكل لافت القوى التي ظلت لأكثر من نصف قرن على الأقل تعمل في خلفية المشهد وتؤسس لحالة من النفوذ والتحشيد الشعبي والثقافي والفكري، مستفيدة من الصراع الذي دب في أوساط التيارات اليسارية والقومية أو القوى التقليدية التي ظلت تتصدر واجهة المشهد اليمني منذ ستينات القرن الماضي.

ففي شمال اليمن يسيطر الحوثيون على مناطق واسعة من بينها العاصمة اليمنية صنعاء التي اجتاحتها ميليشياتهم في سبتمبر من العام 2014 بعد جولات طويلة من الصراع العسكري التي خاضوها في مواجهة الدولة اليمنية بين عامي 2004 و2009، حيث قدموا أنموذجا لحكم الجماعة العقائدية التي تتكئ على مزيج ثقافي وفكري من المذهبين الزيدي والجعفري مع طفرة سياسية مستمدة من مبادئ الثورة الإسلامية في إيران التي امتد تأثيرها إلى اليمن في منتصف الثمانينات من القرن العشرين.

ويستند الحوثيون اليوم في الكثير من شؤونهم الدينية والسياسية على المحاضرات التي ألقاها مؤسس الجماعة حسين بدرالدين الحوثي قبل مقتله على يد الجيش اليمني في حرب صعدة الأولى في العام 2004، حيث حول أتباعه تلك المحاضرات إلى نصوص مكتوبة تعرف بالملازم الحوثية التي يتم تدريسها على نطاق واسع وإلزام الطلاب والشباب اليمنيين في مناطق سيطرة الجماعة بقراءتها كجزء من نظام تلقين إلزامي يعرف بالدورات الثقافية التي تعد بوابة الانضمام للفكر الحوثي.

وزمنيا يمكن القول إن بدايات تسلل تأثير ثورة الخميني في إيران إلى بعض المنتمين للمذهب الزيدي في اليمن، وخصوصا “الأسر الهامشية” في الشمال، جاءت بالتوازي مع تسلل تيارات تأثير دينية أخرى للبلد الذي كان ينقسم أتباعه في الأغلب بين مذهبين رئيسيين هما الشافعي والزيدي، إلى جانب أقليات يهودية وإسماعيلية وبهائية.

فبينما شهدت “السلفية” مرحلة ازدهار هائلة في شمال اليمن في تلك الفترة، مع تراجع تأثير المدارس الصوفية التقليدية، وجدت شخصيات وأسر دينية زيدية في محافظة صعدة على وجه الخصوص ضالتها في مبادئ وأفكار الخمينية وتحديدا ما يتعلق بتعزيز الجانب الثوري السياسي الكامن لديها، كما اعتبرت تلك الطفرة الفكرية التي مرت بها الحاضنة الزيدية اليمنية ردة فعل على المد السلفي الذي وصل إلى محافظة صعدة ذاتها التي احتضنت أكبر مدرسة سلفية في اليمن، أسسها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي بعد حادثة جهيمان في الحرم المكي التي كان أحد المتهمين بالمشاركة فيها.

وقد لعبت الحرب الأفغانية دورا فارقا في إنتاج مخرجات جديدة في الساحة الفكرية اليمنية، حيث شهدت جبال أفغانستان ولادة جيل جديد من التيارات السلفية الجهادية في اليمن التي مزجت بين تأثيرات السلفية التقليدية وبين مدرسة الإخوان المسلمين، ومن تحت عباءة هذا التحول المفصلي خرجت بعد ذلك طلائع تنظيمي القاعدة وداعش في اليمن.

وفيما تأسست الحوثية الجديدة التي نشاهدها اليوم في اليمن مطلع التسعينات، كمزيج من أفكار المذهب الزيدي والتاريخ السياسي لدول الإمامة وتأثير المذهب الجعفري، إضافة إلى تأثيرات الثورة الإسلامية في إيران، يمتد وجود جماعة الإخوان المسلمين في اليمن لفترة مبكرة، حيث ظهرت البذور الأولى لحضور الفكر الإخواني في اليمن في أربعينات القرن العشرين، لكن هذا الحضور ظل خافتا ونخبويا قبل أن يشهد أبرز مراحل ازدهاره الحقيقية في السبعينات والثمانينات عندما لعبت “المعاهد العلمية” دورا مهما في نقل تجربة الإخوان المسلمين في اليمن من الطور النخبوي إلى الدور الشعبي، من خلال تخريج الآلاف من الطلاب المتأثرين بأيديولوجيا جماعة الإخوان السياسية والفكرية، عبر نظام تعليم ديني مواز كان الإخوان يسيطرون عليه بشكل كامل، في معزل عن وزارة التربية والتعليم، وهو الأمر الذي استمر لقرابة ثلاثة عقود، وتعزز في عقد الثمانينات حين استعان الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح بالإخوان ومنظومتهم العسكرية والفكرية، لمواجهة المد الأيديولوجي الشيوعي القادم من جنوب اليمن، والتصدي لأعباء ما عُرف بحرب الجبهة في المناطق الوسطى في شمال اليمن التي امتد إليها التأثير اليساري.

ولم يستطع الرئيس صالح التحرر من أعباء تحالفاته الاضطرارية مع الإخوان إلا بعد أن استعان بهم للمرة الأخيرة في حرب صيف 1994 التي استطاع فيها تصفية نفوذ الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن، وفي عام 2001 تم حل المعاهد العلمية التابعة للإخوان وتوحيد نظام التعليم في اليمن، لكن بعد أن أخرجت هذا المعاهد أجيالا من المنتمين إلى فكر الإخوان الذين شاركوا في إسقاط نظام صالح بعد ذلك.

ويمكن الجزم بأن سطوة الأيديولوجيا تمكنت من السيطرة على توجهات المجتمع اليمني بصورة أوسع بعد التسعينات، حيث تلاشى تأثير التيارات اليسارية والقومية بالتوازي مع تعاظم مد التيارات الدينية، سواء الإخوانية أو السلفية بمختلف امتداداتها الجهادية أو الأصولية الزيدية (الحوثية)، في الوقت الذي راهن فيه الرئيس صالح على سطوة الدولة ونفوذها عبر تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام كتيار وسطي ليس امتدادا لأي تأثيرات فكرية قادمة من خارج اليمن، على الرغم من إدراكه لطبيعة المجتمع اليمني وبنيته الثقافية التي غزتها حمى الأيديولوجيا.

غير أن تأثير كل القوى غير العقائدية بدا محدودا وبدون الفاعلية والزخم والاندفاع الذي تغذيه الأحزاب العقائدية لأتباعها، وهو الأمر الذي دفع صالح للتحالف مع الإخوان في مواجهة اليسار والحزب الاشتراكي، قبل أن يتحالف في 2015 مع الحوثيين لمواجهة الإخوان، وكان ما حصل عليه من حصيلة لهذه التحالفات أن تعرض لمحاولة اغتيال في 2011 على يد الإخوان ونجا من الموت بأعجوبة، قبل أن يقتل في ديسمبر 2017 على يد الحوثيين، ما يكشف خطورة اللعب مع الثعابين الأيديولوجية!

وفي ظل هذه المعطيات، ومع بروز الأبعاد العقائدية في الحرب اليمنية بشكل متزايد ولافت، يمكن القول بشيء من الثقة إن أكبر معضلة تواجه البلد الذي يعاني من حالة حرب وتشظٍّ منذ سبع سنوات تقريبا تكمن في البعد الأيديولوجي للصراع، وتكدس القوة الحقيقية في أيدي أطراف تعمل وفقا لأهداف عقائدية ولا تؤمن بالمسارات السياسية، في ظل تبدد الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها اليمنيون لبناء دولة مدنية على ركام هائل من الأحقاد والنزاعات والأتباع العقائديين.


صالح البيضاني- كاتب صحفي يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *